الجمعة، 25 نوفمبر 2016

الشعر و لغة الترجمة

عندما نقرأ لرواد الحداثة من الشعراء اﻷوربيين أو غير اﻷوربيين بلغاتهم الأصلية نصادف جمالا أخاذا و نصوصا رائعة كتبت بأساليب تختلس رونقها من سحر اللغة و تعلو صروحا شامخة تزهو و تفخر بها ألسن أهلها.
و حينما تتلمس نصوص الحداثيين العرب، تهولك شدة التشويه الممارس على لغتنا المسكية فلا تجد بدا من أن تشيح بذائقتك نفورا أو فزعا من ملامح ما وقعت عيناك عليه.

و لعل للترجمة أو لسوء الترجمة باﻷحرى سببا لا يخفى في تشوه ذائقة كثير من اﻷدباء أو المتأدبين الشباب كما في نفور القارئ العربي من عموم اﻷعمال الشعرية المترجمة.

إن ترجمة الشعر من الصعوبة بمكان لأنها باختصار شديد اجتثاث للنص من سياقاته لنقله إلى سياق مختلف جدا و كتابة أخرى تقرب الغريب و تمنحه بعض ملامح المألوف. لكن كثيرا ممن تصدوا لترجمة الشعر اﻷجنبي إلى لغتنا العربية عكسوا الآية فاستخدموا كلمات عربية لكلام غير عربي فأغربوا أيما إغراب وكادوا ينشئون لغة نعرف منها اللفظ و لا نكاد نتوصل إلى فهم عباراتها المبهمة
و إدراك معانيها المستغلقة، معاني ربما عبر عنها الشاعر في لغته بألفاظ بسيطة و عبارات سهلة متداولة في لغة القوم.

لقد أنتج المترجمون نصوصا مشوهة لا تكاد تستبين في متاهاتها معنى أو تعرف من شظاياها و صدوعها بريقا أو رونقا فكيف تستسيغها الذائقة أو تجد لها سبيلا إلى القلب؟

نقرأ مثلا لأحد الكتاب في ترجمة نص " المركب النشوان" للشاعر الفرنسي آرثر رامبو:

في هدرات المد و الجزر الغاضبة
الشتاء الماضي - أنا اﻷكثر رعونة من أدمغة اﻷطفال
جريتُ و أشباه الجزر العائمة
لم تألف تخبطات أكثر انتصارا

ويقول آخر:
.. أنا الشتاء الآخر الأكثر صمما من عقول الصبيان
جريت ! ولم تحتمل شبه الجزر المنطلقة (السيارة)
اختلاطا وفوضى أكثر انتصارا

يصور الشاعر بلغة فرنسية راقية و نظم موزون مشهدا شتويا تضطرب فيه الأمواج العاتية و تتلاطم بفعل حركة المد أو الجزر،
 يبحر فيه المركب بعناد كعناد اﻷطفال أو أشد شاردا لا يكترث بما يجيش حوله من مخاطر و أهوال ليمر بجزائر انحسر عنها المد ما شهدت يوما هرجا و لا مرجا أكثر عتيا من ذلك.

لكن ما قرأناه آنفا لا يخبرنا بشيء من ذلك و لا يكاد يبين عن معنى سوى أخيلة مبهمة دون ملامح تختفي حالما تظهر.

ربما توخى المترجمان الدقة فاغتالا اللغة على مذبح الصياغة و غار المعنى في غموض شديد طمس واضح معالمه.
و ليست الدقة رصف الكلمة إزاء الكلمة لتنتظم الكلمات العربية وفق مقتضيات النحو و الإنشاء الفرنسيين. ولعل بعض المترجمين يميل إلى الاستئناس بأمانة التطابق مع اﻷصل و التطابق في اﻷصل خيانة
 و تشويه للغة و المعنى فلكل لغة مقتضياتها و أساليبها في التعبير
و للشاعر أن يقدم و يؤخر و يرتب كلامه حسب ما تسمح به لغته
و على المترجم أن يفعل الشيء ذاته حسب مقتضيات لغته أيضا.

فإن كان ترتيب الكلمات على هذا النحو " أنا الشتاء الماضي اﻷكثر صمما" هو العادي الصحيح في التعبير الفرنسي فما هو بالعادي و لا المعبِّر في لغة العرب. و إن كانت لفظة الآخر تدل على الماضي في لسان موليير فما آخَرهم آخَرنا و ما هذا من معاني اللفظ في لساننا العربي. و قد يكون الصمم دالا على العناد أو انصراف الانتباه عن الواقع عندنا لكن لا يوجد في عباراتنا ما يتوصل إلى معنى العناد
أو عدم الاكتراث بإلصاقه بالعقول ووصفها به. أما الجزيرة فهي الأرض يحدق بها الماء من كل جانب أو من معظم جوانبها لذا قالوا جزيرة العرب و سموا بلاد اﻷندلس جزيرة فما الحاجة إلى الأشباه هنا و المقام مقام شعر لا درس جغرافيا. أما الفوضى و التخبطات اﻷكثر انتصارا فما ينبئنا السياق بذاك الذي غالبته و نافسته فانتصرت عليه .. أو حققت من الانتصارات ما لم يحقق، كلمة triomphante في سياقها هذا تعني ببساطة .. أروع، أكثر بهاء و ألقا، أعتى.

قصيدة رامبو ترجمها بعضهم بعنوان المركب السكران و قال آخرون مركب السكارى فيما ترجمها غيرهم إلى المركب النشوان أما مركب السكارى فخطأ لأن السكر وصف الشاعر به المركب لا راكبيه و النشوان أدل على تمشي حميّا الخمر و النشوة في الجسد و ترنح صاحبه ترنحا لطيفا لا يجعله مبغضا إلى غيره، بل قد تكون صفة محببة إلى اﻷدباء أو الشعراء خاصة، قال زهير:
وقد أغدو على ثبة كرامٍ .. نشاوى واجدين لما نشاءُ

أما صفة "سكران" فهي أعم في معناها و أكثر إمعانا في التدليل على أثر السكر غير أنها قد تحمل في طواياها موقف البغض للموصوف
و حرج الانزعاج منه. وللذائقة أن تلتمس بلطف أي اللفظتين أقرب إلى معاني القصيدة.

الجمعة، 18 نوفمبر 2016

ما زال الشتاء يذكرني بك

واختفيت، لا أدري لماذا ولا أدري إلى أين، أو لعلني أدري..
ها هي كلماتي تتوهج و حدها تحت لمسات الشتاء،
تحاول التشبث بأنفاسها المتضائلة في لجة الظلام ..
تعابثها قطرات المطر،
دافئةٌ مثلها قطرات المطر.. مثلك
حين يحاصرني غيابك
كظلال المساء تنسكب من جزر الغيوم
لتعانق التلال النائمة
تلفح وجهي لمسة الصقيع .. أحن إليك
كالوحي
يهطل قصائد باكية
مثل خيوط المطر

تضم في ارتعاشة الماء
شعلة تتقد شجنا
جسدي المبتل كذاكرة الشتاء
الذي ما زال يذكرني بك

الجمعة، 11 نوفمبر 2016

إدموند سبنسر، أغنيّة

في هدأة النهار
و ارتعاشة النسائم
أرسلت رياح الغرب  الشذية

نفحة طيبة
أزاحت
لمسة أشعة الشمس الحارقة
التي راحت تتلألأ
في ألق
و عندما انتابني الضجر
لطول مكثي ببلاط اﻷمير
و لانتظاري بلا جدوى
و تعلقي بآمال خائبة
لا زالت تتطاير
كالخيالات الفارغة
بذهني المشتت

مشيت ،لأخفف من وطأة الخيبة،
بطول شاطئ نهر التايمز
الفضي المنساب
،ضفته التي ارتسمت عليها مسالك العربات
و الماء يلامس حوافها
قد تزينت بالأزهار من كل لون
و أحاطت بها المروج المرصعة بالجواهر الكريمة
التي تليق
زينة لمخدع الغانيات
أو لتكلل رفقاءهن
يوم الزفاف
الذي لا يدوم طويلا
فانسب يا نهر التايمز العذب،
انسب برفق، حتى أكمل أغنيتي

هناك في مرج
قرب حافة النهر
لمحت سربا من الحوريات
بنات الماء الحسناوات
شعهرهن المائل إلى اﻷخضر
ينداح طليقا
فكل واحدة منهن كانت عروسا
و بيد كل منهن سلة
ضفرت من أغصان جميلة
ملساء
مشتبكة اﻷماليد غريبة المظهر
يجمعن فيها الورد

وبأصابع ناعمة
تقصف بلطف
سيقان الورد الرقيقة
لتقطف
أصنافا من زهر المرج
جمعن بعض البنفسج اﻷزرق الشاحب
الذي يغمض أجفانه للمسة المساء
الزنابق العذراء و أزهار الربيع
و مجموعة من الورد القرمزي
لتزين بها باقات العرسان
يوم الزفاف
الذي لم يدم طويلا
فانسب يا نهر التايمز العذب،
انسب برفق، حتى أكمل أغنيتي