الجمعة، 1 أبريل 2016

غزلية العاشق ألفرد ج بروفروك


أولى قصائد إليوت الكبرى حوار أو رحلة مع الذات لبروفروك، رجل في منتصف العمر، متردد، متخاذل، تعوزه الثقة بالنفس، خائب يخشى خيبة أمل أخرى وهو يقف أمام حجرة ملأى بالغواني يرحن فيها و يغدون ليتجاذبن أطراف الحديث عن الفن، عن أعمال الرسام الكبير مايكل أنجلو ، تلوّح إحداههن بإشارة من يدها أو يخيّل إليه ذلك فتطرق أبوابَ الحجرة أو نوافذَها أمانيه لترجع بها حيرته و تردده إلى موقف لا يبارحه، يعلـَق في زمن الانتظار، تحبسه خشيته أن تخيب آماله و يثنيه عجزه عن المبادرة و الفعل.
" هل أجرؤ على إزعاج رتابة الوجود؟" سؤال يلاحقه مثل اﻷصوات الخفيتة في ثنايا الموسيقى المنسابة من الغرفة القاصية، أصوات تجنح بين الفينة و اﻷخرى إلى سكون الصمت.
و تسترسل خواطره في رحلة وجودية مفعمة بالصور، صور محطمة تتناثر بين إيقاعات القصيدة المتنوعة كشظايا مدينة ممزقة.

تمتد الشوارع كالجدل المضجر، يلعق الضباب زوايا المساء،
[و] ينبسط المساء في فُسحة السماء مثل عليل تمدد مخدّرا فوق السرير.

لا أملك هنا إلا أن أتذكّر قول الزجال اﻷندلسي البارع
و جا الليل و امتد مثل القتيل



فهل كان إليوت على اطلاع بتراث أهملناه نحن وتناسيناه؟ أم هل كان ذلك الزمن العربي القاصي المعذب كزماننا هذا يلقي بظلاله الثقيلة على ذهن الشاعر العربي مثلما ملأ أفق بروفروك العاشق المتأمّل؟

القصيدة ليست غزلية كما يشاء العنوان، فوقفة بروفروك هذه أو ورطته تتيح له و لنا لمحة على شخصيته و من خلاله المجتمعات الأوربية بعيون الشاعر، مجتمعات تحفل بأمثال بروفروك، إنسان فقد الصلة بأصالته العابقة و ماضيه الجميل، أجوف يقيس وجوده التافه بعدد ملاعق القهوة التي احتساها في مضاع العمر، خامل لا يملك سوى التسليم بمنتظم اﻷمور و مسايرة جريانها، يعدّ كل صباح قناعا ليلقى به الوجوه التي ألف أن يلاقيها في مجتمع امتهن الزيف و درج على الاكتفاء بالمظاهر، يحس لفرط هشاشته أن كل اﻷعين تتعقبه و تحاصره، تسجل أحواله و تتتبّع حركاته و سكناته كأنه حشرة مثبتة بدبوس على جدار المختبر تنتهكها أعين الرقباء:

و لقد عرفت اﻷعين، عرفتها كلها
اﻷعين التي تصوغك عبارة مبتذلة
تثبتك بدبوس على الجدار
تمتدّ أطرافي في أنحائه
أتخبّط معلقًا به.
أنّى لي [....] حينها
أن ألفظ دابر أيامي و جميع عاداتي
كأعقاب السجائر ؟

يشْبه بروفروك، الكهلُ الذي يحاول أن يتملص من رِبق الزمن ليعاكس تقدمه في السن، الفتى هاملت أمير الحائرين و سيد المترددين .. بل هو ربما نسخة معاصرة غير أنه ليس على شيء من جلاله و ألقه، و هو يعرف مكانته و يدرك قدر نفسه جيدا فالوصف الذي يطالعنا به لشخصه أقرب ما يكون إلى بولونيوس، الوزير الإمّعة المتملق الذي تتجلى سطحيته ثمّ تنكشف عن سخفه

لستُ اﻷمير هاملت
و ما قُدِر لي أن أكونه
لستُ سوى سيد في رفقته
تكتمل به الحكاية
يستهلُّ مشهدًا أو مشهدين
يسدي له النصح
أداة نافعة لا ريب،
مطواع .. يسرّني أن أكون في الخدمة
عاقلٌ، حذِر، دقيق
فصيح العبارة، لكنْ بليدٌ بعضَ الشيء

.. إنه نسخة مفرَغة منه تكتفي باﻷدوار الثانوية لئلا تتكلف عناء البطولة .

و ككل مقارنة يجمع إليوت في طرفيها الماضي و الحاضر تمثـُل صورة اللاحق في مرآة السابق فتطالعنا أشكال هزيلة شوهاء هي انعكاس لذاتها في زمن غابر،
فنهر التايمز الذي ينساب رونقا و صفاء أخاذا في زمن سبنسر الشاعر الذي عزف أغنية له على إيقاعه الخالد، يفقد كل جلاله في اﻷرض الخراب أين يعرق زيتا و قارا
حاملا في رحلته المتعَبة الحزينة القوارير الفارغة و العلب، بقايا الشطائر و أعقاب السجائر

تداعت خيمة النهر
تتشبث الأوراق بأطراف أصابعها الأخيرة
ثم تغرق في ثرى الضفة الندي
تعبر الريحُ الأرضَ الغبراء في صمت
قد رحلت الحوريات
فانسب، يا نهر التايمز العذب، حتى أكمل أغنيتي

مثل اﻷرض الخراب، تحفل هذه القصيدة بعدد من الاقتباسات من قصائد كلاسيكية يوظفها الشاعر توظيفا مزدوجا فهي من جهة نفحة تهب من الماضي الجميل، و هي في سياقها المعاصر شوارد مشتتة ينعكس في صفائها حاضر متّسخ قبيح، و تبرز في ذاك التناقض الصارخ رؤية إليوت للزمن وفي رؤيته تلك ترتبك المعالم وتتداخل فالماضي حاضر في حاضرنا و المستقبل مرتسم في ماضينا .. كأنّ فانوسا سحريا نشر خيوطه المتشابكة على شاشة ما.
الاحتباس في الحاضر رؤية مشوّهة ووجود سقيم يعيشه بروفروك الذي يبدو كأنه يلتقط انشغال الشاعر الإنجليزي أندرو مارفل 1621-1679 في قصيدته "إلى خليلته المدللة":
لو كان لدينا ما يكفي من الدنيا و الوقت ..
مخاطبا إياها بما معناه إن بإمكانهما الانتظار ما شاء الانتظار أن يطول لو كانا خالدين، لكنهما ليسا كذلك، فعليهما باغتنام الفرصة قبل فوتها ولم لا يكومان
لذاذتهما طلاوة الحسن و ريعان شبابهما في كرة ساخنة يقذفانها بكل ما أوتيا من قوة عبر بوابة الحياة.

أما بروفوك فيماطل نفسه مرددا إن هنالك متسعا من الوقت... يقضيه في الانتظار دون جدوى، و مزيدًا من الوقت للتردد، للانغماس في الرؤى
و مئات المراجعات. ثم يدعو ملهمته لأن يقتضبا اﻷمر بابتسامة، ليختصرا الوجود في كرة يدحرجانها نحو سؤال ملّح لا مناص منه .. سؤال لا يطرحه أبدا، فكأن الزمن يتباطأ ثمّ يزحف و يزحف إلى حافة الجمود.

اﻷصالة و الحداثة استمرارية تتداخل و تشتبك عند إليوت كتداخل ومضات الماضي و الحاضر في قصائده، فالتجديد قراءة أخرى صادمة للتراث لا انفصام و لا انسلاخ عنه، هو استكناه ثائر لمكنوناته يزعزع مسلماتنا الهشة بعنف كاستفاقة الغرق على أصوات نشاز تبدد غناء الحوريات و أحلامنا:

فلقد سمعتُ الحوريات تغنّي كلٌّ للأخرى
ما أظنُّ أنهنّ سيغنينَ لي
و لقد رأيتهنّ يمتطينَ اﻷمواج نحو لُجّة البحر
يمشّطن خُصَل الموج البيضاء التي انداحت تسرح خلفها
و الريح تعصف فيتلوّن الماء بين أبيضَ و أسود ..
لبثنا في حجرات البحر [...]
حتّى نبهتنا أصوات البشر فغرقنا.

0 التعليقات :

إرسال تعليق