الجمعة، 13 نوفمبر 2015

الفصحى بين الدارجة و لغة الكتابة



صحيفة الوطن الجزائريِِ؛ عبد الهادي السائح - الفصحى بين الدارجة و لغة الكتابة


2015-08-16



كل لغة ظاهرة فريدة بما تحويه من أنظمة معقدة و ما تشتمل عليه من مستويات في الخطاب و تنوعات أو تفرعات تاريخية، جهوية أو نخبوية تنفرد كل منها بخصوصيات تميزها وبسجلات أو معاجم من الكلم و أساليب للتعبير تختص بها دون غيرها، و قد تجتمع تلكم اﻷطياف و اﻷشتات حول لغة قياسية standard language (فصحى ) عادة ما تكون لهجة وسطا بينها ، لتصير قطبا جامعا لها و مركزا تتمحور حوله، فتستحوذ على أقلام اﻷدباء و تتجسد بها خواطر الكتاب باعتبارها اﻷكثر حظوة و اﻷخطر شأنا وقد لا تتوفر اللغة القياسية في بعض اللغات فتظل مجموعة من اللهجات المترابطة ينأى بعضها عن بعض أو يدنو حسب الموقع، و ربما وجدت أكثر من لغة قياسية لبعض اللغات كما هو الحال في الإنجليزية و الإسبانية.


و اللغة العربية ليست بدعا ولا استثناء ، تطورت وتأقلمت عبر الرقعة الجغرافية الواسعة التي تستحوذ عليها وواكبت بمرونتها العصور المختلفة مستوفية متطلبات التواصل في شتى المجالات. لقد كانت العربية و ما تزال شديدة التنوع جمة الثراء بلهجاتها القديمة و الحديثة، و بتدرج مستويات الخطاب فيها من كلام العامة إلى لغة الكتابة ، وهذان يجتمعان في عصرنا في منطقة وسطى تسمى اللغة الثالثة وهي اللغة السائدة في الإعلام السمعي البصري عموما و على ألسن المثقفين في حواراتهم وفي المدارس.


الكلام عن لغة العوام و اقترابها أو ابتعادها عن الفصحى قديم قدم النحو، ففي المغرب العربي ألّف اللغوي اﻷندلسي أبو بكر الزبيدي الإشبيلي كتابه لحن العوام في القرن الهجري الرابع/ العاشر ميلادي، تناول فيه بعض الأخطاء الشائعة على ألسنة العامة آنذاك و أرخ دونما قصد لكثير من الاستعمالات الدارجة التي لا تزال جارية على ألسنتنا أذكر منها على سبيل المثال:




استعمال كلمة البنّة بمعنى الطعم بدل الرائحة
الدالية لشجرة العنب
متعوب بمعنى مُتعَب
الجنان [مفرد] للبستان

قَيْس بمعنى قِيد ، مِقدار
[عبارة] من برّا
(عاد) بمعنى حتى الآن، ليس بعد في قولهم مثلا ..لم أفعل هذا عاد


إنّ الدارجة، أو لغة العامة، هي اللغة العربية المحكية، ليست و لا ينبغي أن تكون خصما ولا منافسا للفصحى وهي على ما شابها في عصرنا من دخيل وطرأ عليها من تغير في مجال النطق خاصة و بانتفاء حركات الإعراب وانحراف بعض اﻷلفاظ عن معانيها اﻷصلية، تحفل بثروة معجمية هائلة من المفردات و العبارات الفصيحة و الكلمات العتيقة المعبّرة.


هذه الثروة المعجمية تكاد تكون مهملة مهجورة في لغة الكتابة و التدريس بسبب الجهل و تماشيا مع منحى يعتبر كل ما نطق به العامة سوقيا غير لائق ولا صحيح، ما يخلف انطباعا لدى كثير من الناشئة أن لغة الكلام تختلف جذريا عن لغة الكتابة و الدرس لاستقلال كل منهما بمعجم خاص يوازي الآخر ويعارضه و لقلّما تنتقل المفردات من هذا إلى ذاك أو العكس و هذا وضع خاطئ وانفصام غير سليم.


إنّ اللفظة العامية قد لا تقل فصاحة عن نظيرتها المستعملة في الكتابة و إليكم بعض اﻷمثلة من لسان العرب و القاموس المحيط:


السَّبُولةُ والسُّبولةُ والسُّنْبُلة: الزَّرْعة المائلة.

والزَّنَقةُ: السِّكَّة [الزُّقاق] الضيّقة.

قَهِمَ، كفَرِحَ: قَلَّت شَهْوَتُهُ للطَعامِ.

فرى اﻷمر يفريه بمعنى نفّذه قال زهير:

ولأَنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْـتَ، وَبَعْـ ـضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُم لا يَفْرِي

معناه تُنَفِّذُ ما تَعْزِم عليه -

الجُلْجُلان هو السمسم في قشره

فَشَّ الشيء أخرج ما فيه من هواء.

طار له .. أي وقع في نصيبه بعد القسمة، قال الشاعر: فَمَا طَارَ لِي فِي الْقَسْمِ إِلَّا ثَمِينُهَا

وفي الحديث الشريف : " أسهموا بينهما فأيهما طار له أجود الثوبين فهو له"



بل قد تكون اللفظة المستعملة في الدارجة أفصح و أجود من نظيرتها المستعملة في لغة الكتابة

فلفظة جُلْبان مثلا وردت في المعاجم القديمة أما البازلاء فلفظة دخيلة،

وقد ورد اسم حب الملوك في كلام الشعراء الأندلسيين،

قال ابن زمرك شاعر الحمراء:


يا خيرَ من ملك الملوك .. أهديتني حبّ الملوكْ

فكأنما يا قوتـُها .. نظمتْ لنا نظم السلوكْ


أما لفظة الكرز فقد عربها المشارقة حديثا عن كلمة cerise الفرنسية.


هذا غيض من فيض و المجال خصب للبحث و الإثراء فالعربية الدارجة شديدة التداخل بالفصحى وثيقة الأواصر بها و بالماضي العريق، وهي خزان للذاكرة الشعبية تتصل برونق اﻷندلس كما ببساطة الصحراء،
و هي إن كثر فيها الدخيل الذي يمزق نسيجها ويعوق انسيابها فلإهمالنا منبعها اﻷصيل الفصيح و تفضيلنا لغة المستعمر السابق في شتى المجالات الحيوية.

نحن لسنا في حاجة إلى نقل الدارجة إلى المدرسة، نحن في حاجة إلى تهذيب العامية وتقريبها من لغة المدرسة حتى نرتقي بالمنطوق إلى شيء من رونق و نقاء المقروء،
و أن ندرك الصلة و نحسن الربط حتى يكون انتقال المتعلمين من لغة التخاطب اليومي إلى لغة التفكير أسلس و أحسن.





0 التعليقات :

إرسال تعليق